خصال المربّي الذي فقدناه...

جريدة على المحكّ (19 ت1 1988)

بقلم نجيب البعيني

    يوسف سليم نويهض، هوى من عليائه في/19 تشرين الأوّل/ 1988، فترك حسرة في النفوس فكان المصاب به فادحًا والحزن عليه شديدًا.

   هذا المربّي والأستاذ الذي عرفناه عن كثب، فأكبرنا فيه تلك الخلائق الحميدة والصفات الحسنة، التي تمتّع بها، مظهرًا في كلّ حين كرم أخلاق وطيب محتد، وروحًا وثّابة، ونشاطًا دائمًا، في مختلف الحقول الاجتماعيّة والثقافيّة والإنسانيّة.

   يوسف سليم نويهض، تلقّينا خبر وفاته بأسف بالغ، كان رمزًا للوطنيّة الصادقة، ومثالًا أعلى في النبل، وسموّ النفس، وصدق العزيمة. كانت حياته جهادًا متواصلًا قضاه في الكدّ والجدّ، في العرق والدموع، في المثابرة والعمل، مترفّعًا عن مغريات الدنيا، مبتعدًا عن مباذلها، فكان رحمه الله صفحة ناصعة مشرقة من الإباء والشمم، من العزّة والكبر، بل كان سجلًّا ذهبيًّا مكلّلًا بكريم الخصال وجلائل الأعمال.

   كلمة حقّ نقولها في الراحل، ونودّعه الوداع الأخير، نحن، زملاءه في مهنة القلم، نصف قرن من الزمان قضاه في خدمة الناس كان فيها السبّاق إلى أعمال الخير، وجمع الكلمة، وتوحيد الصفّ، عاملًا بصمت دون كلل أو ملل ساعيًا جهده للأعمال الصالحة والثوابت الوطنيّة، والقضايا المصيريّة، باذلًا أقصى إمكاناته المادّيّة والمعنويّة في خدمة مصالح أبناء وطنه وبني قومه.

   نقولها دون تبجّح أو تزلّف أو مباهاة، إنّ الأستاذ المرحوم "يوسف نويهض" كان بمزاياه ومحامده من القلّة النادرة، بل كان من الرجال المعدودين الذين سجّلوا مواقف شجاعة ثابتة، وأعمالًا وطنيّة بارزة، فكان نصير الحقّ أينما وجد، ونصير المظلومين والضعفاء والمساكين، مدافعًا عن مبادىء الشرف، محافظًا على الأخلاق القويمة، متمسّكًا بأهداب الدين الصحيح. وهذه صفات لا ينكرها عليه أحد، كانت عنوانًا كبيرًا، وهدفًا مجيدًا، سعى إليها واتّخذها يوسف نويهض مشعالًا، وعمل لأجلها طوال حياته.

***

   تلقّى دروسه في المدرسة الفرنسيّة في بيروت حتّى الصفوف الثانويّة، ثمّ أكمل دراسته ونال شهادة الليسانس في الأدب من جامعة باريس في سنة 1935. واشتملت الدراسة على الموادّ التالية: فقه اللغة الفرنسيّة 1934، الأدب العربيّ 1934، الدروس التطبيقيّة الفرنسيّة 1934، دبلوم اللغات الشرقيّة 1935. بقي في حقل التربية والتعليم مدرّسًا متنقّلًا في عددٍ من مدارس بيروت الثانويّة أكثر من 35 سنة. أكثرها قضاه في كلّية البعثة العلمانيّة الفرنسيّة في بيروت. نال في سنة 1950 وسامًا رفيعًا من وزير التربية الفرنسيّ. ونال وسامًا آخر في سنة 1958 تقديرًا لخدماته في حقل التعليم.

   كان يوسف نويهض أديبًا مرموقًا، ومؤرّخًا صادقًا، كتب مئات المقالات في الصحف والمجلّات اللبنانيّة والعربيّة. في حقل التربية والتاريخ والأدب والشعر والتوجيه. كانت مواضيعها في التوجيه العامّ، والحثّ على التمسّك بالفضائل وتربية الشباب والشابّات تربية صالحة، وخلق جيل واعٍ يتفهّم قضاياه الوطنيّة ويعمل لها بثبات.

   كما له مخطوطات لم تنشر في التاريخ اللبنانيّ، وأبحاث ودراسات أدبيّة واجتماعيّة.

***

   إنّ الموت مصير كلّ نفس منّا على وجه البسيطة، وليس لنا في مثل هذه الحالة إلّا الصبر واحتمال المكاره ولا رادّ لمشيئة الله سبحانه وتعإلى. هل بمقدور الإنسان أن يقف حائلًا دون حدوث الوفاة بالطبع لا! فالقدر كائنٌ لا يمحى، والأعمار بيد الله. كلّنا على هذه الدرب سائرون. فالموت واحد وإن تعدّدت الأسباب. إنّ عقيدة المؤمنين بالنسبة إلى الحياة والموت لا تتغيّر ولا تتبدّل، هي دائمًا وأبدًا التحلّي بالشجاعة ورباطة الجأش، هي الإيمان بالعقل وتغليب الحكمة أيًّا كانت الظروف، هي الإيمان والتقوى والتعبّد والخشوع للباري جل جلاله وعلا شأنه.

   إنّ المرء مهما ارتفع شأنه و علا مقامه فإنّ دنياه بالنتيجة مرآة لأخْراه.

   وقد كان الفقيد الكريم أحد هؤلاء الذين عملوا وجاهدوا وزرعوا المحبّة والتعاون والاخلاص بين القوم، وعملوا في سبيل آخرتهم، قبل دنياهم. إذ إنّ الإنسان مهما تقلّبت الظروف لا يأخذ معه إلّا الأعمال الصالحة، والصيت الحسن، والسمعة الطيّبة، والأخلاق الفاضلة.

   كان يوسف نويهض يحمل في جنباته روحًا سمحة لا أصفى ولا أنقى. كان متواضعًا لطيفًا بشوشًا. كان يؤثر دائمًا القيام بدور البنفسجة المتوارية وراء ألقِ لونها وشذا عطرها. يوسف نويهض إنسان من الرجال القلائل الذين انضموا إلى قافلة الوطنيين الشرفاء. ففي رحاب الرحمن عليك رضوانه ورحماته، وأنت في أعلى العليين، من أهل التقوى والتوحيد.

                                                نجيب البعيني